هوية بيروت تتلاشى مع تداعي منازلها التراثية
بيروت (أ ب)- بالنسبة الى زياد دندن، هناك ما يكفي من التشويه الحاصل لتراث بيروت المعماري، ليجعله يبكي. فالمدينة التي لطالما وصفت بأنها لؤلؤة الشرق المشبهة بباريس، والتي إختلطت هندسة بيوتها بالعثماني والاوروبي، فقدت بريقها المعماري الفريد بسبب الجشع والاهمال.
صارت معالم العاصمة اللبنانية ومبانيها وكتلها الاسمنتية العملاقة والمتجاورة، دليلا واضحا على المعادلة الطاغية منذ نهاية الحرب الاهلية قبل 30 عاما: ان الاولوية في غالبية الاحيان تعطى للأرض وثمنها، مهما كانت الاهمية التراثية لما هو فوقها من بناء.
الان، يخشى خبراء ونشطاء من ان الازمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب لبنان منذ 2020، ستترك حتما تأثيرات إضافية مؤذية على ما تبقى من التراث المعماري لبيروت. وتتابع على المدينة الخراب الذي ألحقته الحرب، ثم سياسات الاعمار التي انتقدها كثيرون، وصولا الى انفجار مرفأ بيروت عام 2020 الذي ألحق - بحسب وزير الثقافة الاسبق عباس مرتضى- أضرارا ب601 مبنى تراثيا وقديما. والآن، يتخوف كثيرون من حالة التراخي الظاهرة والتي قد تسمح بتلاشي ما تبقى من بيوت تراثية عاجلا او آجلا.
وبناء على احصائية المديرية العامة للآثار، التابعة لوزارة الثقافة، بلغ عدد المباني التراثية في منطقة بيروت عند انتهاء الحرب الاهلية عام 1990، 1061 مبنى، ولم يتبق منها الان سوى نحو 200 مبنى، وهو عدد أكده ”مختبر المدن بيروت”، وهو مركز بحثي وتوثيقي تابع للجامعة الامريكية، يرصد التحولات في البيئتين الطبيعية والعمرانية، وخلص في احصاء له عام 2018 الى تبقي 200 منزل تراثي فقط في العاصمة.
يدرك زياد دندن (60 سنة) ان شيئا غير عادي أصاب مدينته التي يحفظ الكثير من تفاصيل احيائها وشوارعها، بالاضافة الى بيوتها التراثية التي يحكي عنها بحسرة كبيرة، مثلما يتحدث عن صخرة الروشة، أحد أبرز رموز هوية بيروت، والتي كان بامكان العابرين الاستمتاع بمشهدها اثناء مرورهم على الكورنيش البحري حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، لكن ”حيتان المال استولوا بوسيلة أو بأخرى على مساحات كبيرة من الواجهة البحرية المطلة على الصخرة وحجبوا الرؤية عن أهل المدينة” كما يقول.
وجد دندن ما يكفي من الدوافع ليكون في مكانه كناشط في جمعية ”تراثنا بيروت”، المعروفة باسم ”تراث بيروت” واصبح منسقا للاعلام ونائبا للرئيس، فقد ”شعرنا بأن هوية العاصمة تتغير”.
يقول رئيس الجمعية الدكتور سهيل منيمنة ان تحركهم بدأ كمبادرة فردية في العام 2016، ثم انضم اليها كثيرون من مؤرخين وباحثين ومختصين بتاريخ بيروت، وتحولت الى جمعية مسجلة العام 2019، حيث جمعهم الى جانب قضايا الثقافة والفنون الشعبية والملابس والطعام، القلق حول التخريب العمراني بسبب ما لحق بالمدينة من تغيير كبير في مظهرها العام وهويتها.
يعدد الدكتور منيمنة المواصفات التي وضعتها مديرية الاثار منذ العام 1943 للبيوت التراثية والتي منها القناطر، والقرميد على السطح والقمريات الدائرية للسماح بدخول أشعة الشمس وامكانية وجود بركة مائية صغيرة في ساحة المنزل أو داخله، مشيرا الى ان لها قوانين لحمايتها منذ ذلك الوقت، ”لكن هذه القوانين لم تكن واضحة وفيها ثغرات كبيرة استفاد منها المقاولون وأصحاب رأس المال”.
هناك- كما يقول الخبراء- ما يميز بين البيوت التراثية نفسها، ويمكن تصنيفها الى ثلاثة أقسام، بحسب عمرها الزمني وبحسب طراز البناء. فهناك البيوت التي كانت مقامة داخل سور بيروت القديمة والتي لم يتبق منها، ولا من السور، أثر يذكر. وهناك البيوت التي أقيمت خلال الامتداد الجغرافي للمدينة خارج السور القديم بين عامي 1860 و1880 ولا يزال بعضها قائما الى الان في حي زقاق البلاط البيروتي، ومنها ”قصر حنينة” و”قصر زيادة” والمركز الالماني للدراسات الشرقية.
بالاضافة الى ذلك هناك البيوت التي شيدت في بيروت في الفترة ما بين عامي 1890 والعام 1930. متل مبنى ”السراي الحكومي”، المقر الرسمي للحكومة، و”قصر تقي الدين الصلح” في حي القنطاري، و”قصر بشارة الخوري” في حي كركول الدروز.
تلاشي البيوت التراثية يعني بالنسبة الى دندن ”انك تدخل الى مدينة لم يعد لها هوية ولا تاريخ. عمارات اسمنتية وزجاج والمونيوم. هل ما زالت ترى زقاق البلاط والحمرا مثلما كان لها رونقها؟ انها تبعث على البكاء”. وقال دندن ”نخشى ان تؤثر الازمة الاقتصادية على استمرارية البيوت التراثية غير المأهولة نتيجة اغراءات المستثمرين والسماسرة للتخلص منها من اجل إقامة مشاريع عمرانية حديثة ضخمة، فيما نتخوف من تراجع قدرة الدولة او رغبتها في تشديد ضبط المخالفات او محاولات التحايل على القوانين”.
المتحدث باسم ”جمعية حماية التراث اللبناني” رجا نجيم ليس مطمئنا أيضا، ويقول ”لا نعلم ماذا يخبئ لنا المستقبل. أزمة البلد مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها الفوضى التي يمكن ان تدمر ما تبقى من تراث” وبالتالي لا يكون عندها بامكان القوانين الموضوعة ان تحمي التراث المعماري ولا البيوت المصنفة محمية من جانب وزارة الثقافة الى أبد الآبدين.
يتحسر نجيم وهو يقول انه برغم العديد من القضايا والمعارك التي خاضها طوال 15 سنة ”لم ننقذ أي بيت لان عقلية الدولة والمتعهدين والمالكين والمستأجرين، كلها تنحو باتجاه الاعمار وليس نحو المحافظة على التراث”، عملا بمبدأ الملكية المقدس في النظام الاقتصادي، فلا يعود ممكنا إجبار صاحب البيت مثلا على الاحتفاظ به ودفع ضرائبه ورسوم البلدية وكلفة ترميمه، من دون ان تقدم الدولة دعمها وتسهيلاتها له، اذا كان عاجزا عن ذلك.
في هذه الاثناء، ينتصب البيت الزهري، المعروف عند البيروتيين باسم ”قصر الداعوق”، المشيد منذ أكثر من 100 سنة، على تلة متميزة مطلة على البحر، تتآكله عوامل الزمن والاهمال، برغم انتقال ملكيته الى شخص مقتدر ماليا. ”هذا حرام” يقول نجيم. اما دندن فيتساءل متألما من جهته، هل هو ”متروك عمدا للاهمال لعله يتداعى لوحده؟!”.